فصل: تفسير الآية رقم (96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ وهي الآيات التسع العصا‏.‏ واليد البيضاء‏.‏ والطوفان‏.‏ والجراد‏.‏ والقول والقمل‏.‏ والضفادع‏.‏ والدم‏.‏ والنقص من الثمرات والأنفس، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من مفعول ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ أو نعتاً لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبساً بآياتنا‏.‏ أو أرسلناه إرسالاً ملتبساً بها‏.‏

‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ هو المعجزات الباهرة منها وهو العصا والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها، والمراد بالآيات ما عداها، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطاناً له على نبوته واضحاً في نفسه أو موضحاً إياها من أبان لازماً بمعنى تبين ومتعدياً بمعنى بين، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئاً واحداً في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريداً نحو مررت بالرجل الكريم‏.‏ والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون‏:‏ ‏{‏مِنْ رَبّكُمَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏فَمَا بَالُ القرون الاولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51‏]‏ من الحقائق الرائقة‏.‏ والدقائق اللائقة، أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ وجعله عبارة عن التوراة، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ‏}‏ فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقلبها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، ومن هذا يعلم ما في عند النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضاً ضرورة‏.‏ ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضاً متأخر عن مهلك فرعون وقومه‏.‏

وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأت التصحيح ممكن، أما أولاً‏:‏ فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة، وأما ثانياً‏:‏ فبأن يقال‏:‏ إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى وملائه بالتوراة فيكون لفاً ونشراً غير مرتب، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل‏.‏ أو الغمام من الآيات، وفي مجموعة سرى الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بئاياتنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 96‏]‏ حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملائه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة‏.‏ وانفجار الماء‏.‏ وغير ذلك، وبأنه قيل‏:‏ إن إعطاء التوراة مجموعاً مرتباً مكتوباً في الألواح بعد غرق فرعون، وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملائه، ويؤيده ما قيل‏:‏ إن بعض الألواح كان منزلاً قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم، وماحكى من أن إعطاء التوراة مجموعاً كان بعض والإيحاء بها كان قبل الخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة، وما ذكر أولاً‏:‏ من حديث التعلق بالمطلق‏.‏ وثانياً‏:‏ من حمل ‏{‏الملا‏}‏ على ما يشمل بني إسرائيل الخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وكيف يحمل الملأ على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك؛ وقيل‏:‏ لو جعل ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ متعلقاً

‏{‏بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 96‏]‏ لفظاً أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان، وفيه ما لا يخفى فتأمل‏.‏

وتخصيص الملأ بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأنه ملائه فقيل‏:‏ ‏{‏فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملائه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحاً، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملائه المترددين بين هاد إلى الحق وهو موسى عليه السلام وداع إلى الضلال وهو فرعون فنعى عليهم سوء اختيارهم، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ‏.‏

وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن، قيل‏:‏ ومعنى ‏{‏فاتبعوا‏}‏ فاستمروا على الاتباع، والفاء مثل ما في قولك‏:‏ وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، فإن الاتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك، وإيراد الفاء للاشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار، وجعل الفاء كما في قوكل‏:‏ زجرته فانزجر فتأمل‏.‏

وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد‏.‏ والإفساد‏.‏ والضلال‏.‏ والإضلال، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار، وكذا الحال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ أي براشد أو بذي رشد، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن وأمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيراً لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد‏.‏

ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ على الأول‏:‏ استئناف وقع جواباً لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلاً، وعلى الثاني‏:‏ تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته، وجملة ‏{‏وَمَا أَمْرُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ الخ جوز أن تكون حالاً من فاعل اتبعوا وأن تكون حالاً من مفعوله قيل‏:‏ وهو مختار الزمخشري، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم، و‏{‏يَقْدُمُ‏}‏ كينصر من قدم كنصر بمعنى تقدم، ومنه قادمة الرحل، وهذا كما يقال‏:‏ قدمه بمعنى تقدمه، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي، ومثله مؤخر العير كما في المزهر، والمراد من أوردهم يوردهم، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة، والقول‏:‏ بأنه باق على حقيقته والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر ليس بشيء، ونصب النار على أنه مفعول اثن لأوردهم وهي استعارة مكنية تهكمية للضدّ وهو الماء، وفي قرينتها احتمالاً كما شاع في ‏{‏يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏ وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعاراً استعارة تبعية لسوقهم إلى النار‏.‏

وجوز أن يقال‏:‏ إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل، وجوز أيضاً جعل المجموع تمثيلاً‏.‏

وجوز بعضهم كون ‏{‏يَقْدُمُ‏}‏ وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك‏.‏

‏{‏وَبِئْسَ الورد المورود‏}‏ أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكبار وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء ‏{‏والمورود‏}‏ صفته، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل ‏{‏بالالقاب بِئْسَ‏}‏ ومخصوصها ولا تصادق على هذا، وأيضاً في جواز وصف فاعل نعم‏.‏ وبئس خلاف، وابن السراج، والفارسي على عدم الجواز‏.‏

وجوز ابن عطية كون ‏(‏المورود‏)‏‏}‏ صفة والمخصوص الناس إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي بئس مكان الورود المورود النار ومنهم من يجعل ‏{‏المورود‏}‏ هو المخصوص بالذم، والمراد به النار، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضاً أي بئس مكان الورد النار ومن يجعل الورد فاعل ‏{‏بِئْسَ‏}‏ ويفسره بالجمع الوارد‏.‏ و‏{‏المورود‏}‏ صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي بئس القوم المورود بهم هم فيكون ذماً للواردين لا لموضع الورود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏واتبعوا‏}‏ أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون، وقيل‏:‏ القوم مطلقاً ‏{‏فِى هذه‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏لَّعْنَةُ‏}‏ عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم ‏{‏وَيَوْمَ القيامة‏}‏ أيضاً حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءاً وفاقاً‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار‏.‏

‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم، ويكون ‏{‏الرفد‏}‏ بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ يقال‏:‏ رفد الرجل يرفده رفداً ورفداً إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح‏.‏ والرفد بالكسر ما فيه من الشراب، وقال الليث‏:‏ أصل الرفد العطاء والمعونة، ومنه رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء، ويقال رفده رفداً ورفداً بكسر الراء وفتحها، ويقال‏:‏ بالكسر الاسم‏.‏ وبالفتح المصدر، وفسره هنا بالعطاء غير واحد‏.‏

وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء؛ نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري، والمراد به على التفسرين اللعنة وتسميتها عوناً على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية، وأما كونها معاناً فلأنها أرفدت في الأخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتبعوا‏}‏ الخ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه‏.‏ وجنونك مجنون، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل‏.‏

وقال بعض المدققين‏:‏ إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفداً للمعذبين لكان من ذلك القبيل، ثم قال‏:‏ وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدراً وإنما العطاء بمعنى ما يعطى فكثيراً ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد‏.‏ وغيهر فيوم معطوف على محل في الدنيا‏.‏

وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً وقبح إرفاد آخراً انتهى، وتعقبه في «البحر» بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ معمول ‏{‏بِئْسَ‏}‏ وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها، ولو كان ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ متأخراً صح ذلك كما قال الشاعر

‏:‏ ولنعم حشو الدرع أنت إذا *** دعيت نزال ولج في الذعر

وهو كلام وجيه، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد‏؟‏ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهراً مطهراً بل قال بعضهم‏:‏ إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول‏:‏ باب التأويل واسع‏.‏ وباب الرحمة أوسع منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره ‏{‏مِنْ أَنْبَاء القرى‏}‏ المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديراً بذكر أربابها ‏{‏نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏}‏ خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك؛ وجوز أن يكون من ‏{‏أَنْبَاء‏}‏ في موضع الحال وهذا هو الخبر، وجوز أيضاً عكس ذلك ‏{‏مِنْهَا‏}‏ أي من تلك القرى ‏{‏قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ أي ومنها حصيد، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى، وقد شبه مابقي منها بالزرع القائم على ساقه‏.‏ وما عفا وبطل بالحصيد، فالمعنى منها باق‏.‏ ومنها عاف، وهو المروي عن قتادة، ونحوه ما روى عن الضحاك ‏{‏قَائِمٌ‏}‏ لم يخسف ‏{‏وَحَصِيدٌ‏}‏ قد خسف، قيل‏:‏ ‏{‏وَحَصِيدٌ‏}‏ الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله‏:‏ والناس في قسم المنية بينهم *** ‏(‏كالزرع منه قائم وحصيد‏)‏

وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصول كما قال الأخفش، وجمعه حصدي، وحصاد مثل مرضي ومراض، وجملة ‏{‏مِنْهَا قَائِمٌ‏}‏ الخ مستأنفة استئنافاً نحوياً للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به، أو بيانياً كأنه سئل لما ذكرت ما حالها‏؟‏ فأجيب بذلك، وقال أبو البقاء‏:‏ هي في موضع الحال من الهاء في نقصه، وجوز الطيبي كونها حالاً من القرى، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالاً من ضمير نقصه فاسد لفظاً ومعنى، ومن القرى كذلك، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير‏.‏ وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير الصور المعهودة، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال ارجة عنها وليس بمراد، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص، وفيه فساد لفظي أيضاً‏.‏

وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر‏.‏ وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالاً بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضاً، وقد أصاب بعضاً وأخطأ بعضاً، ووجه الحلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ، وقول أبي حيان‏:‏ إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعاً والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ قيل‏:‏ الضمير للقرى مراداً بها أهلها وقد أريد منها أولاً حقيقتها، ففي الكلام استخدام، وقيل‏:‏ الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافاً مقدراً أي ذلك من أنباء أهل القرى؛ والضمائر منها ما يعود إلى المضاف‏.‏ ومنها ما يعود إلى المضاف إليه، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز، وضمير ‏{‏مِنْهَا‏}‏ لها وضمير ‏{‏ظلمناهم‏}‏ للأهل المفهو منها، وقيل‏:‏ ‏{‏القرى‏}‏ مجاز عن أهلها، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار، أو يقدر المضاف‏.‏ والضميران له أيضاً، وعلى هذا خرج ما حكى عن بعضهم من أن معنى ‏{‏مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏ منها باق نسله‏.‏ ومنها منقطع نسله، وأياً ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم‏.‏

‏{‏ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ‏}‏ أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم ‏{‏التى يَدْعُونَ مِن‏}‏ أي يعبدونها ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ أي شيئاً من الإغناء أو شيئاً من الأشياء فما نافية لا استفهامية وإن جوّزه السمين وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع، و‏{‏مِنْ‏}‏ الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق‏.‏ أو مفعول به للدفع، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي حين مجيء عذابه منصوب بأغنت وهذا على ما في البحر بناءاً على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ حرف وجوب لوجوب‏.‏

وقرىء آلهتهم اللاتي و‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة، وفيه مطابقة للموصوف ليست في ‏{‏التى‏}‏ لكن قيل كما في «جمع الجوامع» للجلال السيوطي إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر، فقيل‏:‏ ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ ومن هنا قيل‏:‏ إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الآلي أو الذين، والتتبيب على ما في «البحر» التخسير، يقال‏:‏ تب خسر‏.‏ وتببه خسره‏.‏

وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك‏.‏ والتتبيب الاهلاك، وفي القاموس التب‏.‏ والتبب‏.‏ والتباب والتتبيب النقص والخسار‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن عمر‏.‏ ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير، وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم‏:‏ هم جدعوا الأنواف فأذهبوها *** وهم تركوا بني سعد ‏(‏تباباً‏)‏

وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك الأخد والإهلاك الذي مر بيانه، وهو على ما قال السمين‏:‏ خبر مقدم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ مبتدأ مؤخر، وقيل‏:‏ بالعكس، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو‏.‏

‏{‏إِذَا أَخَذَ القرى‏}‏ أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره، وقرأ الجحدري‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ‏}‏ على أن ‏{‏أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ فعل وفاعل، والظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏القرى‏}‏ ولذا أنث الضمير و‏{‏ظالمة‏}‏ إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالاً من المضاف المقدر أولاً وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف، وفائدة هذه الحال الأشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم، وظاهر صنيع بعضهم أخذاً من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه‏.‏ وغيره ‏{‏إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ‏}‏ وجيع ‏{‏شَدِيدٍ‏}‏ لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير، أخرج الشيخان في صحيحيهما‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ ‏{‏وكذلك أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم ‏{‏لآيَةً‏}‏ أي لعلامة، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن؛ والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة ‏{‏لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة‏}‏ فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى، وقد أقيم ‏{‏مَنْ خَافَ‏}‏ الخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصل ولم ينزجر عن الضلالة قطعاً، وقال‏:‏ إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد إن فيما ذكر دليلاً على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم وهي دار العمل فلأن يعذبوا في الآخرة عليه وهي دار الجزاء أولى، وقيل‏:‏ المراد إن فيه دليلاً على البعث والجزاء، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وهو كما ترى ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة ‏{‏يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس‏}‏ أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء، فالناس نائب فاعل مجموع‏.‏

وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ و‏{‏مَّجْمُوعٌ‏}‏ خبره، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعاً وعدل في الفعل وكان الظاهر ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 9‏]‏ وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم الاسناد، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله‏:‏ الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له ‏{‏يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءاً له مجرى المفعول به كما في قوله‏:‏

قليل سوى طعن الدراك نوافله *** أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهوداً بل جعل مشهوداً فيه ولم يذكر المشهود تهويلاً وتعظيماً أن يجرى على اللسان وذهاباً إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره، وقد يقال‏:‏ المشهود هو الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم‏:‏ لفلان مجلس مشهود‏.‏

وطعام محضور، ولأم قيس الضبية‏:‏

ومشهد قد كفيت الناطقين به *** في محفل من نواصي الناس ‏(‏مشهود‏)‏‏}‏

واعتبروا كثرة شاهديه نظراً إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه، ولو جعل اليوم نفسه مشهوداً من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة، وبما ذكر يعلم سقوط ما قبل‏:‏ الشهود الحضور‏.‏ واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُؤَخّرُهُ‏}‏ أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود، ونقل الجو في رجوع الضمير للجزاء، وقرأ الأعمش‏.‏ ويعقوب يؤخره بالياء‏.‏

‏{‏إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ أي لانتهاء مدة قليلة، فالعد كناية عن القلة، وقد يجعل كناية عن التناهي، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء، وقد يطلق على نهايتها، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه، وجوزها بعضهم بناءاً على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر، وتقدير المضاف أسهل منه‏.‏ واللام للتوقيت، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى ‏{‏إِلَيْهَا‏}‏ وفي الآية رد على الدهرية‏.‏ والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا، وهو بحث مفروغ منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ‏}‏ أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروى عن ابن جريج، وقبل‏:‏ الضمير للجزاء أيضاً، وقيل‏:‏ لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة وما يؤخرخ بالياء، وتسبة الإتيان‏.‏ ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأت التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالاتيان يأبى تعرف الاتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الاتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبي نصاً على عدم جوازه كما لا تقول‏:‏ جئتك يوم بشرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد‏.‏ والنيروز‏.‏ والساعة مثلاً، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زماناً فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال‏:‏ يوم تقوم الساعة‏.‏ ويوم يأتي العيد‏.‏ والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذاً حسن مثل قوله‏:‏

فسقى الغضى والساكنيه وإن هم *** شبوه بين جوانحي وضلوعي

فهذا أحسن، وقرأ النحويان‏.‏ ونافع ‏{‏يَأْتِىَ‏}‏ بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير باثباتها وصلاً ووقفاً وهي ثابتة في مصحف أبي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلاً ووقفاً، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلاً ووقفاً هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفاً التخفيف كما قالوا‏:‏ لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله‏:‏

كفاك ما تليق درهما *** جوداً وأخرى تعط بالسف الدما

وقرأ الأعمش يوم يأتون بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس‏.‏ وأو أهل الموقف ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق‏.‏

وجوز أن يكون منصوباً بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولاً به لا ذكر محذوفاً، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي‏.‏ وابن عطية كونها نعتاً ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفاً وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول‏:‏ إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالاضافة إليها كالإضافة إليها ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ أي إلا باذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35، 36‏]‏ في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 111‏]‏ في آخر منها، وروي هذا عن الحسن‏.‏

وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة، نعم قد يؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 32‏]‏ ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35، 36‏]‏ وكذا قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ اختلافاً بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال‏:‏ إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقاً بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم‏:‏ خرس فلان عن حجته‏.‏ وحضرنا فلاناً يناظر فلاناً فلم نره قال شيئاً وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر‏:‏

أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يوارى جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما *** سمعي وما بي غيره وقر

وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ فقد قيل فيه‏:‏ إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يتعذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعبادة ملجأون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل ‏{‏يُؤْذَنُ لَهُمْ‏}‏ أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضى لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفاً للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلا المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد مّا لا يخفى‏.‏

وقال بعض الفضلاء‏:‏ لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية‏:‏ لا بد من أحد أمرين‏:‏ إما أن يقال‏:‏ إن ما جاء في الآيات من التلاؤم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل‏:‏ من أعم الأسباب أي لا تكلف نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وه متصل، وجوز أن يكون منقطعاً ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا باذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرىء كما في المصاحف لابن الأنبار يوم يأتون لا تكلم دابة إلا باذنه ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ أو الجميع الذي تضمنه ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏ ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيداً لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏شَقِىٌّ‏}‏ مبتدأ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَعِيدٌ‏}‏ بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب‏:‏ معاونه الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال‏:‏ والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي‏.‏ والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد‏.‏ والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقى على السعيد لأن المقام مقام الانذار والتحذير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ أي سبقت لهم الشقاوة ‏{‏فَفِى النار‏}‏ أي مستقرون فيها ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ قال أهل اللغة من الكوفية‏.‏ والبصرية‏:‏ الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه، قال رؤبة‏:‏

حشرج في الصدر صهيلا أو شهق *** حتى يقال ناهق وما نهق

وقال ابن فارس‏:‏ الزفير إخراج النفس‏.‏ والشهيق رده، قال الشماخ في حمار وحش‏:‏

بعيد مدى التطريب أول صوته *** زفير ويتلوه شهيق محشرج

وقال الراغب‏:‏ الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملاً بمشقة فتردد فيه نفسه، ومنه قيل‏:‏ للإماء الحاملات الماء‏:‏ زوافر‏.‏ والشهيق طول الزفير وهو رد النفس، والزغير مده، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول‏.‏

وعن السائب أن الزفير للحمير‏.‏ والشهيق للبغال وهو غريب، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ يريد ندامة ونفساً عاليا وبكاءاً لا ينقطع، وقرأ الحسن ‏{‏شَقُواْ‏}‏ بضم الشين فاستعمل متعدياً لأنه يقال شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه، وجملة ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏ الخ مستأنفة كأن سائلا قال‏:‏ ما شأنهم فيها‏؟‏ فقيل لهم فيها كذا وكذا، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور

‏[‏بم كقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ‏{‏مَا دَامَتِ السموات والارض‏}‏ أي مدة دوامهما، وهذا عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع على منهاج قول العرب‏:‏ لا أفعل كذا ما لاح كوكب‏.‏ وما أضاء الفجر‏.‏ وما اختلف الليل والنهار‏.‏ وما بل بحر صوفة‏.‏ وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وروي هذا عن ابن جرير، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسموات والأرض سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة للأبد، قال الزمخشري‏:‏ والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى‏.‏

قال القاضي‏:‏ وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه، وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل واما الدوام فليس مستفاداً من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولاً على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى، وتعقبه الجلبي بأن قوله‏:‏ لكل عاقل غير صحيح فانه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة، وقوله الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهما السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سموات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فانه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه، وقوله‏:‏ على أنه ليس من تشبيه الخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الذار وليس بذلك، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى، وفيه بحث‏.‏

والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وفي الاختبار عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ والسدى‏.‏ وغيرهم ما يقتضيه، ومن تأمل منصفاً بعد تسليم أن هناك تشبيهاً يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئاً بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجاً مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد، وهو أكثر من أن يحصى، ولعل هذا أولى أيضاً مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذدلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم‏.‏

والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ قيل‏:‏ هو استثناء من الضمير المستكن في ‏{‏خالدين‏}‏ وتكون ‏{‏مَا‏}‏ واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقاً‏.‏

والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال‏:‏ فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ تقسيماً صحيحاً لأن من شرطه أن تكون صفة كل قم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وههنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجاً عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول، فكيف ينتقض بما سبق عليه‏؟‏ كيف وقد سبق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الجنة‏}‏‏؟‏ ثم قيل‏:‏ فإن قلت‏:‏ زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو رخر يوم يأتي قلت‏:‏ إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقاً؛ وأجيب بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين، وهو ‏{‏مَا دَامَتِ السموات والارض‏}‏ فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة‏.‏

وخلاصة المعنى على هذا أن الشعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة، وإن أريد مطلقاً فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى‏.‏

ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعاً، وقيل‏:‏ هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد‏:‏ إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالاً سيف البغي والاعتزال، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك‏.‏

وقال «صاحب الكشف»‏:‏ إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليباً أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاراً تلظى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ وكم‏.‏ وكم، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلاً عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل، وكفاه بطلاناً التخيص من غير دليل، واعترض بأن لك أن تقول‏:‏ هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقاً‏.‏

وقيل‏:‏ إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات و‏{‏مَا‏}‏ على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في النار، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زماناً شاء الله تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك‏.‏ أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضاً تأخره عن الحال ولا مدخل لها في الاستثناء لا يفصح، والإبهام بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق، وأجيب بأنه قد يقال‏:‏ إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتاً عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنياً وإن كان معتزلياً فقد وافق سنن طبعه، ويجاب عما بعد بالمنع، وقيل‏:‏ أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن ‏{‏يَوْمَ يَأْتِى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زماناً شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضاً في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضاً إلا أن يقال‏:‏ لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى‏.‏

وقيل‏:‏ هو استثناء من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الاشكال، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والإطراد ليس بلازم، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الإطراد ضعفاً، وقيل‏:‏ ‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى سوى كقولك‏:‏ لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها، ونقل ذلك عن الزجاج‏.‏ والفراء‏.‏ والسجاوندي، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض، والاستثناء في ذلك منقطع، ويحتمل أن يريدوا أن ‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأييد وهو فاسد، وقيل‏:‏ ‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائداً على ذلك، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله

‏:‏ وكل أخر مفارقه أخوه *** لعمر أبيك ‏(‏إلا‏)‏‏}‏ الفرقدان

وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة، وقال العلامة الطيبي‏:‏ الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل ‏{‏مَا‏}‏ على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية، و‏{‏خالدين‏}‏ حال مقدرة من ضمير الاستقرار أن في النار، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلداً فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقاً أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ وتعقب بأنه لا يجري في المبال إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلاً، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه، ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى النار‏}‏ فلا يكون لهم دخول أصلاً، ودلالة ‏{‏مَا‏}‏ لإبامه إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام، وقيل‏:‏ وقيل، والأوجه أن يقال‏:‏ إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء إن شاء لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب ‏{‏حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وَلاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك‏.‏

وفي المعالم عن الفراء أيضاً ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال‏:‏ هذا استثناء استثناه سبحانه ولا يفعله كقولك‏:‏ والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود‏.‏

وفي البحر عن ابن عطية نقلاً عن بعض ما هو بمعناه أيضاً حيث قال‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ فقيل فيه‏:‏ إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل‏:‏ إن شارء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع، وممن ذهب إلى ذلك أيضاً الفاضل ميرزاجان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل‏:‏ إرشاد العبد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاحق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمراً واجباً عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكداً، والمراد بالذين شقوا على هذا الوجه الكفار فقط فانهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة وبالذين سعدوا المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفِى الجنة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏ لأنه يصدق بالدخول في الجملة‏.‏

وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب ‏{‏حتى يَلِجَ الجمل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ فإن قلت‏:‏ فقد حصل مغزي الزمخشري من خلود الفساق، قلت‏:‏ لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا أعني السعداء كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا عى حسب مراتبهم انتهى فتأمل، فإن الآية من المعضلات‏.‏

وإنما لم يضمر في ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ الخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير، واللام في ‏{‏لَّمّاً‏}‏ قيل‏:‏ للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا دَامَتِ السماوات والارض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ الكلام فيه ما علمتخلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم بهجة وسروراً كما ذكر في أهل النار ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ لأن المقام مقام التحذير والإنذار، و‏{‏سُعِدُواْ‏}‏ بالبناء للمفعول قراءة حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وحفص، ونسبت إلى ابن مسعود‏.‏ وطلحة بن مصرف‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمس، وقرأ جمهور السبعة ‏{‏سُعِدُواْ‏}‏ بالبناء للفاعل، واختار ذلك علي بن سليمان، وكان يقول‏:‏ عجباً من الكسائي كيف قرأ ‏{‏سُعِدُواْ‏}‏ مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم‏:‏ مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلاً تقول‏:‏ سعده الله تعالى بمعنى أسعده، وقال الجوهري‏:‏ سعد بالكسر فهو سعيد مثل قولهم‏:‏ سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري‏:‏ ورد سعده الله تعالى فهو مسعود،‏.‏ وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في شقوا‏.‏ وسعدوا على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى‏.‏ ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه ‏{‏عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت‏.‏ وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب ‏{‏عطاءاً‏}‏ على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا‏}‏ يقتضي إعذاءاً وإنعاماً فكأنهم قيل‏:‏ يعطيهم إعطاءاً وهو إما اسم مصدر هو الاعطاء‏.‏ أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏، وقيل‏:‏ هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة‏.‏ أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناءاً ومبالغة في التأبيد ودفعاً لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل‏:‏ إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة وهو إما نفس الدخول‏.‏ أو ما هو كاللازم البين له لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار؛ والثاني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عطاءاً‏}‏ الخ بياناً لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ قال عمر‏:‏ لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وبما أخرج إسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال‏:‏ سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ

‏{‏وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ الآية، وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن إبراهيم قال‏:‏ ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض *إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 801‏]‏ قال‏:‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال‏:‏ جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً إلى غير ذلك من الآثار‏.‏

وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص بأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها؛ ومر شيى من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أتي تحصى، ولا يقاوم واحداً منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدى بل لا يكاد يصح القول بالنسخ ي مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ وأما التقسيم ففي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ الخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني‏:‏

لمختلفي الحاجات جمع ببابه *** فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغني *** وللمذنب العتبي وللخائف الأمن

ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ وفاء ‏{‏فَأَمَّا‏}‏ الخ، قيل‏:‏ وفي العدول عن فأما الشقى ففي النار خالداً فيها الخ وأما السعيد أو المسعود ففي الجنة خالداً فيها الخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال‏:‏ أتدرون ما هذان الكتابان‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول الله أما تخبرنا‏؟‏ فقال للذي في يده اليمنى‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم أجلهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثم قال للذي في شماله‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه‏:‏ ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه‏؟‏ فقال‏:‏ سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وأن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال‏:‏ فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» وجاء في حديث «الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر لملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأمر بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنة‏.‏

وأبو يعلى‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه‏؟‏ قال‏:‏ بل على شيء قد فرغ وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له»، وقيل‏:‏ كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعاً إيذاناً بأن المراد بشقى وسعيد فريق شقي‏.‏ وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل‏:‏ الإفراد أولا للاشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانياً لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعاً جمعاً وزمرة وله شواهد من الكتاب والسنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏تَكُ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلاتك في شك بعد أن بين لك ما بين ‏{‏مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء‏}‏ أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم فمن ابتدائية، وجوز أن تكون بمعنى في، و‏{‏مَا‏}‏ مصذرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم ‏{‏مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ‏}‏ استئناف في بياني وقع تعليلاً في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محدوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم‏.‏ أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل الذي عبدون من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأنه التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى ‏{‏كَمَا يَعْبُدُ‏}‏ كما كان عبد فحذف لدلالة ‏{‏قَبْلُ‏}‏ عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ‏}‏ يعني هؤلاء الكفرة ‏{‏نَصِيبَهُمْ‏}‏ حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم‏.‏ أو من الرزق فيكون عذراً لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير بالنصيب على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروى عن ابن زيد، وبالرزق عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن ‏{‏لَمُوَفُّوهُمْ‏}‏ مخففاً من أوفى ‏{‏غَيْرَ مَنقُوصٍ‏}‏ حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏ وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال‏:‏ إنه الحق‏.‏

وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول‏:‏ وفيته شطر حقه‏.‏ وثلث حقه‏.‏ وحقه كاملا‏.‏ وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل‏:‏ وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملاً لم أنقصهمنه شيئاً، وأما قولك‏:‏ وفيته حقه كاملاً فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك‏:‏ وفيته حقه ناقصاً فغير صحيح للمنافاة انتهى‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملاً كان أو بعضاً فقولك‏:‏ وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال‏:‏ استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل الووفي بمعنى الأخذ، ومن قال‏:‏ أعطيت فلاناً حقه كان جديراً أن يؤكده بقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مَنقُوصٍ‏}‏ انتهى، وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك‏:‏ نصف حقه وحقه منصفاً، فجاز وفيته نصيبه منصفاً ونصيبه ناقصاً، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ أي التوراة ‏{‏فاختلف فِيهِ‏}‏ أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏ وعزم ‏{‏إِنَّكَ افتريته‏}‏‏.‏

وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا‏؟‏ مستلزماً للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا، وقيل‏:‏ إن في على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بانزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى، قيل‏:‏ وليس بذاك‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ عوده على القومين أحسن عندي، وتعقب بأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 111‏]‏ الخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر، والأولى عندي الأول ‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الالباس ‏{‏لَفِى شَكّ‏}‏ عظيم ‏{‏مِنْهُ‏}‏ أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فان ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداءاً غير خفي‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للوعيد المفهوم من الكلام ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ أي موقع في الريبة، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ‏}‏ التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل‏:‏ إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضاً أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يعني به كفار هذه الأمة ‏{‏لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أعمالهم‏}‏ أي أجزية أعمالهم، ولام ‏{‏لَيُوَفّيَنَّهُمْ‏}‏ واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم، و‏{‏لَّمّاً‏}‏ بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر‏.‏ وحمزة، وحفص‏.‏ وأبي جعفر‏.‏ وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد‏:‏ إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة‏:‏ إن أصل ‏{‏لَّمّاً‏}‏ هذه لما منونا، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته، ولا يقال‏:‏ إنها ‏{‏لَّمّاً‏}‏ المنوتة وقف عليها بالألف، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان‏:‏ إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لمّ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاى الله تعالى‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏لَّمّاً‏}‏ المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئد فالاعراب م ستعرفه أيضاً إن شاء الله تعالى وهو بعيد جداً، وقيل‏:‏ إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله‏:‏ حلفت يميناً غير ذي مثنوية *** يمين امرىء إلا بها غير آثم

فلا يبعدأن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هن نافية، و‏{‏لَّمّاً‏}‏ بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تقثيل أنالنافية، ولنصب كل والنافية لا تنصب، وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ على ظاهرها‏.‏ و‏{‏لَّمّاً‏}‏ بمعنى إلا كما في قولك‏:‏ نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان‏:‏ إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ إن زيداً إلا ضربت لم يكن تركيباً عربياً؛ وقيل‏:‏ إن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميماً للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فخذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء‏.‏

وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي‏:‏ إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله‏:‏ وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم

واللام على هذين الوجهين قيل‏:‏ موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفطاً أو تقديراً لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جواباً للقسم مطلقاً، وقيل‏:‏ إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولاً أو موصوفاً على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن، الجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضاً لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر‏:‏ وهذان الوجهان ضعيفان جداً ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غر المدغمة نحو قولهم‏:‏ ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي‏.‏ وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميماً فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضاً ما فيه‏.‏ ففي المعنى إن حذف هذه الميم استقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني‏:‏ كيف يستقيم تعليل الحدف بالاستقثال وقد اجتمعت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 48‏]‏ ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر‏:‏ وإني لما أصدر الأمر وجهه *** إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وف الكلام حدف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله‏:‏ إذا قلت‏:‏ سيروا إن ليلى لعلها *** جرى دون ليلى مائل القرن أعضب

أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل عن مثلها‏:‏ كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم‏:‏ قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلاً عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏لَّمّاً‏}‏ هذه هي الجازمة حدف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم‏:‏ خرجت ولما‏.‏

وسافرت ولما ونحوه‏.‏ وهو سائغ فصيح فيكون التقدير ولما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ونجازاتهم، ثم قال‏:‏ وما أعرف وجهاً أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة ن مثله لم يقع في القرآن انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك بمعنزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر عناه ابن هشام في قوله معترضاً على ابن الحاجب‏:‏ وفي هذا التقدير نظر‏.‏

قال الجلبي‏:‏ وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير من أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل‏:‏ إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع‏.‏ وابن كثير أن‏.‏ ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتباراً للأصل في لعمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال‏:‏ أخبرني الثقة أنه سمع يعض العرب يقول‏:‏ إن عمراً لمنطلق‏.‏

وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل ‏{‏كَلاَّ‏}‏ منصوباً بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف إن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المسكورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، و‏{‏كَلاَّ‏}‏ اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي ‏{‏مَا‏}‏ كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه؛ وجعل الجملة القسمية خبراً وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبوز بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي‏.‏ وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبراً بما ذكر في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبى‏.‏

والحسن بخلاف عنه‏.‏ وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن ان نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، و‏{‏لَّمّاً‏}‏ بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بمعنى إلا في كلام العرب، وقل الفراء‏:‏ إن جعلها هن بمعنى الأوجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله‏:‏ لما قمت عنا وإلا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيداً على معنى إلا زيداً ولا التفات إلى إنكارهما، والقراءة المتواترة في ‏{‏وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ تثبت ما أنكراه‏.‏

وقد نص الخليل‏.‏ وسيبويه‏.‏ والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئاً فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبه‏.‏

وقرأ الزهري‏.‏ وسليمان بن أرقم ‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا‏}‏ بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم‏:‏ لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في ‏{‏لَيُوَفّيَنَّهُمْ‏}‏ عند أبي البقاء وضعفه‏.‏

وقال أبو علي‏:‏ إنها صفة لكل ويقدر مضافاً إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئد بمعنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل‏:‏ وآن كلا جميعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30‏]‏ وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد‏.‏

وقال ابن جنى‏:‏ إنها منصوبة بليوفينهم على حد قولهم‏:‏ قياماف لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لا عمالهم ‏{‏لَيُوَفّيَنَّهُمْ وَخَيْرٌ إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ جملة القيم وجوابه، وروي أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة‏.‏

وقرأ الأعمس نحو ذلك إلا أنه أسقط من هو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل‏:‏ وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين ‏{‏إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل‏:‏ توكيد للوعد والوعيد فانه سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئد تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏

وقرأ ابن هرمز ‏{‏وتعلمون‏}‏ على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏